مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، بين نظرية الوزارة للماوردي و الخطب الملكية
تهتم الأفكار السياسية، بالتنظير لموضوع السلطة و شؤونها العامة،
وكيفية تدبير شؤون العلاقة بين الحكام والمحكومين.
إذ تطورت هذه الأفكار في مراحل تاريخية طويلة إلى فلسفة سياسية شكلت مهبط
أفكار رواد التنظير السياسي، ومرجعا للنبش في تاريخ الحضارات القديمة التي شكلت
رافدا أساسيا للفلسفة السياسية انطلاقا من التجارب المختلفة لها في تدبير شؤون
الحكم.
و شكلت خلاصة هذه التجارب عماد ثوابت الفلسفة السياسية كما نعرفها
اليوم، والتي على أساسها بنيت الدولة الحديثة.
و تشكل نظرية الوزارة للماوردي فصلا حيا من الأفكار
السياسية التي تبلورت عن تجربة حقيقية في ظل حكم الدولة العباسية، والتي تحظى
بالتقدير العلمي الكبير في هرم الفلسفة السياسية.
حيث يميز الماوردي في نظريته بين " وزارة التنفيذ " و " وزارة التفويض " و يضع معايير وشروط تقلد كل وزارة على حدة.
أولا: وزارة التنفيذ يشترط فيها:
- الأمانة حتى لا يخون فيما أؤتمن عليه و لا يغش فيما قد استنصح
فيه
- صدق اللهجة .........
- قلة الطمع حتى لا يرتشى.......
- أن يسلم بينه وبين الناس من عداوة وشحناء...........
- أن يكون ذكورا لما يؤديه الى الخليفة...........
- الذكاء والفطنة حتى لا تدلس عليه الأمور...........
- أن لا يكون من أهل الأهواء............
و حكم وزارة التنفيذ حسب الماوردي: " أضعف و شروطها
أقل ( عن وزارة التفويض)، لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام و تدبيره، وهذا
الوزير وسط بينه وبين الرعايا و الولاة، يؤدي ما أمر، و ينفذ عنه ما ذكر(...) فهو
معين في تنفيذ الأمور و ليس بوال عليها ولا متقلد لها(...) و لا يعتبر في المؤهل
لها لا الحرية ولا العلم، لأنه ليس له أن ينفرد بولاية و لا تقليد فتعتبر فيه
الحرية، ولا يجوز أن يحكم فيعتبر فيه العلم...( محمد غربي، الوجيز في الأفكار
السياسية).
فالوزير هنا لا يعمل بفكره بل بفكر الإمام و تقديره، وهو منفذ لما
يؤمر به، وبالتالي فهو غير مسؤول عن نتائج ما يقوم به تحت نظر الإمام، لدى فوزارة
التنفيذ لا يشترط فيها العلم.
و هذا وضع يذكرنا بالوزراء في النظام السياسي المغربي لمرحلة ما بعد
حصول المغرب على الاستقلال إلى حدود دستور 1996.
حيث تميزت هذه المرحلة بالصراع بين المؤسسة
الملكية والقوى التقدمية حينها على توجهات المشروع المجتمعي للمغرب، بامتداداته
الدولية حيث الصراع بين المعسكرين الغربي و الشرقي حول الأيديولوجيات والأفكار، ما
اضطر معه الملك الحسن الثاني إلى الانتصار لأفكاره الليبرالية و لمشروع الدولة
المغربية عبر تحييد باقي الأفكار المناوئة، ما اضطر معه لقيادة الحكومة بنفسه و
ضبط توجهاتها، و توجهات وزراءها، و هنا كان الملك الراحل يحتاج إلى وزير أمين و
مطيع ينفذ الأوامر الصادرة إليه بأمانة و إخلاص، أكثر من وزير يفكر و ينفذ إرادته
الخاصة . لذلك قال المرحوم الملك الحسن الثاني أن بإمكانه أن يعين سائقه وزيرا أولا،
و إن كان يبدوا هذا من خارج المألوف، فهو من وجهة نظر نظرية الوزارة للماوردي،
يبدوا مبررا، لان وزير الملك الحسن الثاني ليس مطلوبا منه التفكير في حل المعضلات
السياسية، ومن تم لا يشترط فيه العلم المفضي للاجتهاد في القضايا.
و من تم، لم يكن وزراء الملك الحسن الثاني يتحملون مسؤولية تدبير
شؤون الحكم بالمغرب كما هو الشأن مع وزراء وزارة التفويض.
ثانيا: وزارة التفويض؛
يشترط لها الماوردي نفس شروط اختيار الإمام
إلا شرط النسب، أي أن " الأئمة من قريش" و هي:
-العدالة بكافة شروطها أو على شروطها الجامعة،
-العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل و الأحكام،
-سلامة الحواس/ من سمع و بصر و لسان، ليصح مباشرة ما يدرك بها،
-سلامة الأعضاء، من نقص يمنع من استيفاء الحركة و سرعة النهوض،
-الرأي المفضي إلى سياسة الرعية و تدبير المصالح،
-الشجاعة والنجدة، المؤدية إلى حماية البيضة و جهاد العدو.
ما يهمنا هنا هو شرط " العلم المفضي إلى الاجتهاد في النوازل
"، بمعنى أي يكون الوزير متمكنا من شتى أصناف العلوم التي تؤهله
لمباشرة مهامه باقتدار، يؤهله للنجاح في مهمة الوزارة المكلف بها، و هو ملزم
بالاضطلاع بمهامه على أكمل وجه تحت طائلة الإقالة في حالة عدم الكفاية، فالكفاءة
أول شرط في وزارة التفويض. " لأن الإمام يفوض إليه تدبير الأمور برأيه و
إمضاءها على اجتهاده
(...) إذ يجوز لهذا الوزير أن يحكم بنفسه و أن يقلد الحكام،
لأن شروط الحكم فيه معتبرة، ويجوز أن يباشر تنفيذ الأمور التي دبرها، و أن يستنيب
في تنفيذها لأن شروط الرأي و التدبير فيه معتبرة "( محمد غربي، الوجيز في
الأفكار السياسية).
فوزارة التفويض: هي الاستيلاء على التدبير، والعقد، والحل، والتقليد،
والعزل (...) بتنفيذ ما اقتضاه رأي الوزير من تدبير شؤون المملكة ( كتاب أدب
الوزير للماوردي المعروف بقوانين الوزارة و سياسة الملك لقاضي القضاة أبي حسن علي
بن محمد بن حبيب الماوردي).
فوزير التفويض يباشر مهامه بالاعتماد على علمه و تجربته وذكائه
وفطنته السياسية، وكل نجاح يحسب له، وكل تقصير يسأل عليه.
بالإضافة إلى شرط " الرأي المفضي إلى سياسة الرعية و تدبير المصالح
" المتناقضة بين الأطراف الاجتماعية والسياسية وغيرها، فحصافة الرأي المبني
على رؤية سليمة للأمور، بعد تحليل عميق لمعطيات اللحظة السياسية المفضي لإيجاد
مخارج مناسبة لكل الوضعيات المعقدة التي تطرأ في شؤون الدولة، هي من المؤهلات
اللازمة لوزير يتحمل مسؤولياته كاملة، شرط أن يخبر الإمام بما يمضيه من أعمال.
و هذا هو الوزير المطلوب اليوم في نظامنا السياسي المغربي،
الذي يستطيع بخبرته وكفاءته إيجاد الحلول الكفيلة بإنجاح البرامج الحكومية،
وتحقيق التنمية المنشودة عبر اجتراح صيغ حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة،
و فق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي يتطابق و وزارة التفويض كما صاغها أبي
الحسن الماوردي.
لان دستور 2011، قد جاء بحكومة لها اختصاصات مستقلة ( إضافة إلى أخرى
مشتركة ليست في معرض بحثنا) عن أي طرف سياسي آخر، تتداول وتقرر فيها في المجلس
الحكومي، شرط النجاح في مهامها، وتحقق التنمية التي يطالب بها الشعب المغربي.
لكن اليوم، مشكل الكفاءة مطروح بحدة على الحكومة و الأحزاب السياسية، بدليل عدد الوزراء المقالين في حكومتي المغرب لما بعد دستور 2011، حيث ما فتئ الملك محمد السادس يطالب الحكومات المغربية في تحري شرط الكفاءة أثناء إجراء مشاورات تشكيل الحكومة، كما جاء في خطاب داكار، و أسس لهذا المطلب في خطاب العرش ليوليوز 2004 حين أبرز الملك أن هدفه من الاهتمام بالشأن الحزبي هو " تكوين نخبة مؤهلة لتدبير الشأن العام " ليربط جلالته نجاح النموذج التنموي اليوم بوجود الكفاءات المؤهلة كما جاء في خطاب العرش الأخير.
مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بين نظرية الوزارة للماوردي والخطب الملكية |
لأن المعطى الدستوري و السياسي الجديد يفرض على الأحزاب
السياسية الاستقلال التام، و الاستغناء بنفسها، و الاعتماد على ذاتها، و تحمل
مسؤولياتها بتأهيل نفسها بمقومات الديمقراطية و الكوادر المؤهلة، و إعادة ربط الصلة
بهموم المواطن المغربي، و كذا بالحفاظ على المسافة القانونية والسياسية التي أصبحت
تفصل الحكومة عن المؤسسة الملكية، و التي أشار إليها الملك بكل وضوح في خطاب العرش
لسنة 2017 حيث قال: " ...فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب
والطبقة السياسية و المسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا و إعلاميا، من
المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر
الملكي، و إرجاع كل الأمور إليه ".
و هنا، الملك ينتقد سلوك الطبقة السياسية ( الذي يتطابق مع وضع
" وزير التنفيذ " الذي لا يتحمل المسؤولية بل يتحملها إمامه)، عبر
اختبائها في عباءة الملك، حيث لم يعي بعد هذا الفاعل السياسي، أننا انتقلنا إلى
وزارة التفويض و فق " مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ". و هو توضيح من
الملك على أن رأسي السلطة التنفيذية في المغرب قد انفصلا قانونيا وسياسيا، ولكل
منهما مجاله الخاص، ومهامه التي يسأل عنها في حالة النجاح أو الفشل. و يؤكد على
هذا بقوله: " إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، و إما أن تنسحبوا..." بمعنى
إما أن تنجحوا في مهامكم أو تقدموا استقالتكم، أو يتم إقالتكم. حيث يتحدث أبي
الحسن الماوردي كذلك عن أسباب العزل، و يعدد لها ثمانية أوجه،
منها: " أن يكون عزل الوزير بسبب عجزه و قصور كفايته، فالعمل بالعجز مضاع، و
قد قيل العجز نائم و الحزم يقضان، وهو نقص في العاجز. و إن لم يكن ذنبا، فلا يجوز
في السياسة إقراره على العمل الذي عجز عنه ".
فمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ينتقل بنا مباشرة إلى وزارة التفويض بشروطها المعتبرة، التي تعتبر شرطا ضروريا لإنجاح مشروع التحول إلى ملكية برلمانية، كأفق للنظام السياسي المغربي.
و على الأحزاب السياسية أن تعي
أهمية هذا التحول، و أن تضطلع بدورها التاريخي في هذا الصدد، بتوفير الأطر الكفأة
لتدبير حكومي سليم، قادر على تحمل أعباء الوزارة
محمد بالخضار، باحث في القانون العام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق