مفهوم نظرية فصل السلطات لدى مونتسكيو و مسار تطورها
عرفت
الأفكار السياسية والفلسفة السياسية عموما، وهي تسعى الى إيجاد صيغ لأنظمة حكم
ديمقراطية تطورا نوعيا مع نظرية فصل السلطات، التي نحتها الفيلسوف الفرنسي
مونتسكيو، انطلاقا من التجربة السياسية الإنجليزية، بعدما مهَّد لها مفكرين
سياسيين اخرين. فما هو مسار تشكل هذه النظرية؟ وما هو مضمونها النظري و المفاهيمي؟
المطلب الأول : مفهوم نظرية فصل السلطات
تعتبر
نظرية فصل السلطات " مبدأ سياسي للحكم، يقوم على أساس فصل السلطات الرئيسية
الثلاث للحكم، التشريعية والتنفيذية والقضائية، بعضها عن بعض، بهيئات تنظيمية
مستقل كل منها عن الأخرى[1] فالأمير، أو
الحاكم، يضع القوانين بالسلطة الأولى لزمن معين أو لكل زمن، و يصحح أو يلغي ما وضع
منها، وهو بالثانية يقرر السلم والحرب ويرسل السفارات أو يتقبلها، و يوطد الأمن
ويحول دون الغارات، وهو بالثالثة يعاقب على الجرائم أو يقضي فيما بين الأفراد من
خصومات، وتسمى هذه الأخيرة سلطة القضاء، وتسمى الأخرى سلطة الدولة التنفيذية فقط [2].
|
||
وعلى
هذه السلطات أن تكون لها صلاحية إيقاف بعضها البعض حتى لا تنزلق الى الشمولية[3]، إلا أنه لا يكفي
لكي "توقف السلطة السلطة" أن يكون هناك فصل بينهما، أو أن يعهد ببعض من
الاختصاصات الى كل منها تباشره استقلالا عن الأخرى، وإنما يجب بالإضافة الى ذلك،
أن تكون علاقاتها متكافئة، أي أن يكون لكل سلطة من السلطات الثلاث ثقلا ووزنا،
تستطيع بواسطته أو من خلاله أن تقاوم السلطات الأخرى.
والواقع
أنه بغير ذلك لا تبدو أية فائدة من الاخذ بمبدأ فصل السلطات، إذ ما الفائدة من فصل
الوظيفة التنفيذية عن الوظيفة التشريعية إذا لم يتمكن صاحب التنفيذ أن يعمل إلا
بإرشاد صاحب التشريع؟ وما الفائدة من فصل القضاء إذا كان رجال السلطة القضائية
يتبعون السلطة التنفيذية؟[4]
إلا
أن الغاية من مبدأ الفصل بين السلطات هو عدم تجميع واحتكار السلطة التشريعية
والتنفيذية والقضائية من طرف سلطة واحدة أو هيئة واحدة[5] لأن هذا الجمع
بين السلطات الثلاث يؤدي الى الاستبداد الذي يذهب بالحقوق والحريات، "إذ لا
تكون الحرية مطلقا إذا ما اجتمعت السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية[...] لأنه
يخشى أن يضع الملك نفسه أو السنات نفسه قوانين جائرة لينفذها تنفيذا جائرا. وكذلك
لا تكون الحرية إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية،
وإذا كانت متحدة بالسلطة الاشتراعية كان السلطان على الحياة و حرية الأهلين أمرا
مراديا، وذلك لأن القاضي يصير مشترعا، و إذا كانت متحدة بالسلطة التنفيذية أمكن
القاضي أن يصبح صاحبا لقدرة الباغي"[6] لأن التجارب
الأبدية أتبتت أن كل إنسان يتمتع بسلطة يسيئ استعمالها، أو يتمادى في هذا
الاستعمال حتى يجد حدودا توقفه. [7]
فالحرية
هي الهدف الأساسي لنظرية فصل السلطات حيث أكد على توفر الحرية في الأنظمة السياسية
المعتدلة "... حيث ان الحرية تجعل في الجمهوريات عادة وتبعد عن الملكيات ...
حيث أن الشعب في الديمقراطيات يظهر فاعلا لما يريد تقريبا فإن الحرية جعلت في هذه
الأنواع من الحكومات[8].
وبالتالي
جاءت نظرية فصل السلطات لتقعد لمفهوم تشتيت سلطان الدولة المستبدة إلى سلط ثلاث،
تضع بينهم مسافة قانونية وسياسية، تضمن من خلالها حرية المواطنين عبر المراقبة
المتبادلة بينها، كضمان لعدم انزلاق أي سلطة خارج الضوابط القانونية والسياسية
المؤطرة لها.
"
فالسلطة التشريعية تناط بالبرلمان، والسلطة التنفيذية تناط برئيس الدولة، أو رئيس
الحكومة أو الوزراء، والقضاء للسلطة القضائية، الأساس لا يكمن في اختلاف الأجهزة
لكن استقلالها، إن لم يكن استقلالا كليا، وجب أن تكون المسافة بينهم متباعدة قدر
الإمكان، بمعنى أن ارتباط السلط فيما بينها يجب أن يكون في حدوده الدنيا. والأمر
كما أوضحه مونتسكيو" لكي لا نسيئ استعمال السلطة، فعلى السلطة أن تحد
السلطة"، فعلى المستوى القانوني يجب الحيلولة دون أن تقوم سلطة بممارسة جميع
السلط الثلاث، على المستوى السياسي يجب الحفاظ على حريات الأفراد.[9]
فالهدف
وراء مبدأ فصل السلطات هو القضاء على الاستبداد[...]عبر توزيع السلط وعدم تجميعها
في يد سلطة واحدة[10]، لمواجهة السلطة
المطلقة للملكية التي تبنت نظرية الحق الإلهي[11]، والانتقال الى
الأنظمة المعتدلة حيث تتوفر الحرية، جمهورية كانت( ديمقراطية او
ارستقراطية)، أو ملكية شريطة ألا تسيئ استعمال السلطة، حيث تتوفر الفضيلة
السياسية التي تعني حب الوطن والمساواة في الديمقراطية. [12]
فالفضيلة
تعد ركيزة أساسية في عمل الدولة، إذ يقول سقراط لتلميذة السيباد"
يجب قبل كل شيء يا صديقي ان تفكر في اكتساب الفضيلة انت وكل رجل يريد
ألا يعنى بنفسه وبماله من الأشياء فحسب، بل أيضا بالدولة وبالشؤون التي تعني
الدولة[13]، إلا أن الفضيلة قد
تتخلى عن نفسها الى الإفراط، فليس من الحكومات ما يقدر لها البقاء إلا الحكومات
المعتدلة[14] لأن
تجاهل قانون الاعتدال كان سبب تردي الحكومات في صنوف الفساد والجور[15]، وبذلك تعتبر الديمقراطيات
الليبرالية في شكلها الحالي، نتيجة منطقية لتطور تاريخي طويل أدى الى إحلال
الديمقراطية محل الاستبداد، وتبني مبدأ فصل السلطات[16].
وقبل
أن تتبلور نظرية فصل السلطات مع مونتسكيو، فقد مرت في مسار تطوري على مستوى
الممارسة والتدافع السياسي، أكثر منه على مستوى التنظير السياسي.
المطلب الثاني: نشأة مفهوم و مبدأ الفصل بين السلطات
يعتبر
ارسطو أول من نادى بفصل السلطات[17]، إذ يقول أن السلطة
لا تنبع إلا من الجماعة، وبالتالي لا يجوز أن تسند الى فرد أو أقلية من الشعب،
وإنما إلى الجماعة كلها، وبما أن وظائف الدولة متعددة ومتشابكة وجب توزيعها الى
عدة وظائف فرعية ثلاث:
1- المداولة: (الفحص والتشاور) سماها
ارسطو السلطة التداولية، ويتولاها المجلس العام عبر فحص المسائل والقضايا العامة
ومناقشتها.
2- الأمر: وظيفة الحكم وإصدار الأوامر،
يتولاها الحكام.
3- القضاء أو العدالة: تناط بالسلطة
القضائية التي تتولاها المحاكم للفصل في الخصومات والجرائم.
والواقع
أن دعوة ارسطو لم تكن دعوة الى الفصل بين السلطات، بل دعوة الى تقسيم وظائف الدولة
حسب طبيعتها القانونية[18]. و شيشرون و
مارسيليو وبودان ولوك واخرون، وتبلورت على يد المفكر الفرنسي مونتسكيو[19] إلا أن كتابات
متعددة تعتبر أن مبدأ الفصل بين السلطات" يستقي جذوره من فلسفة الأنوار
للمفكرين الأوروبيين منذ مطلع القرن الثامن عشر، ومن أبرزهم جون لوك الذي ميز لأول
مرة في كتابه الحكومة المدنية الذي صدر سنة 1690، أي سنة بعد
إعلان وثيقة الحقوق سنة 1689 بين أنواع السلطات التي قسمها الى ثلاثة: السلطة
التنفيذية، السلطة التشريعية، والسلطة الاتحادية، ويلاحظ أن الفيلسوف الإنجليزي لم
يدرج ضمن نظريته المتعلقة بتوزيع السلط، السلطة القضائية، هذا الإغفال ، هو ما
يفسر ارتباط مبدأ الفصل بين السلطات باسم المفكر الفرنسي مونتسكيو، الذي وضع أسسه
في كتابه" روح القوانين" الصادر سنة 1748، حيث وضح مبادئه الأساسية بشكل
واضح ودقيق على نقيض جون لوك[20] الذي
يرى أن هناك سلطتين أو حكمين: سلطة جوهرية، هي السلطة التشريعية، وسلطة تنفيذية
تعمل على تنفيذ تلك التشريعات، وهذه السلطة أي التنفيذية، تحتوي على مجالين
مختلفين: مجال الإدارة ومجال العدل، وتعمل أجهزة مختلفة على ممارستها.[21]
و
قد تبلور المفهوم في صيغته النهائية مع مونتسكيو بعد صعوده (أي مفهوم فصل السلط)
في مسار تطوري من خلال الصراع بين القوى السياسية في النظام الإنجليزي، حيث انه
في" الزمن الفيودالي كانت السلط جميعها في يد الملك[...] له صلاحية وضع
القوانين وتنفيذها وممارسة القضاء، ومنذ القرن الثالث عشر، ظهر برلمان بغرفتين
اعتمادا على المعايير الاجتماعية والجغرافية، حيث اجتمع البرلمان في سنة 1295،
والذي يضم ممثلي النبلاء ورجال الدين، وممثلي المدن واللجان التي تشكل مجلس
العموم، هذا البرلمان القوي بالشرعية الوطنية، سيحاول ان ينتزع من الملك سلطة وضع
القوانين العادية أو اقتراحها أو التصويت عليها، وذلك عبر ابتزاز الملك سياسيا
بالاعتماد على حق منحه إياه الميثاق الأعظم لسنة 1215 للبرلمان، يتمثل في إلزامية
موافقة هذا الأخير على أي مشروع للرفع من قيمة الضرائب التي يقترحها الملك
لاكتسابها للشرعية، ومقابل موافقة البرلمان على اقتراحات الملك المالية، يجب على
هذا الأخير قبول مقترحات القوانين التي يأتي بها البرلمان. ومع صعود غيوم
ارونج الى العرش الإنجليزي بمساعدة البرلمان، وافق الملك الجديد على
التخلي عن السلطات التشريعية التي كان يتمتع بها سلفه هنري الثامن، هذه السلطة
التي تحولت مباشرة الى البرلمان، وهذا الانتقال تضمنه إعلان الحقوق لسنة 1689.
هكذا
نشأ لأول مرة في بلد أوروبي مبدأ الفصل بين السلط، ووضع موضع التنفيذ، حيث
البرلمان يحوز السلطة التشريعية، والملك يحوز السلطة التنفيذية[22].
هكذا
انبثق مبدأ الفصل بين السلطات تجريبيا، من خلال التدافع بين أطراف اللعبة السياسية
الإنجليزية، حيث استغل ممثلي الشعب التحولات السياسية الداخلية والخارجية لاستخلاص
صلاحيات سياسية وقانونية ظلت حكرا على الملوك الانجليز يتوارثونها فيها
بينهم كغنيمة سياسية بمبررات ميتافيزيقية، و عرف المبدأ انتشارا واسعا كانت له
اثارا سياسية فارقة.
محمد
بالخضار، باحث في القانون العام
[1] عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، ج:4، المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، دار الهدى، ص:546.
- Montesquieu, de
l’esprit des lois, le monde de la philosophie, Flammarion, paris, 2008,
p : 243
[2]عدنان السيد حسين، تطور الفكر السياسي، ط:2، 2009، المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر و التوزيع، بيروت، لبنان، ص:288.
[3]رقية مصدق،
القانون الدستوري والمؤسسات السياسية،ط:2، 1990، دار توبقال للنشر، ص: 137.
[4] حسن
مصطفى البحري،" الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية
كظمان لنفاذ القاعدة الدستورية" دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق،
جامعة عين شمس، القاهرة، 2005-2006، ص: 36الى65.
[5] مصطفى
بن شريف، التشريع ونظم الرقابة على دستورية القوانين، سلسلة الوعي القانوني، رقم:
1، سبتمبر 2015، مطبعة بني يزناسن، سلا، منشورات الزمن، ص: 12
[6] الحاج قاسم محمد، القانون الدستوري
والمؤسسات السياسية – المفاهيم الأساسية والنظم السياسية، ط :5، 2011، ص: 112.
[7] عدنان السيد حسين، م – س، ص: 288 –
289
[8] عدنان السيد حسين، م – س، ص: 287-288.
[9] Ferdinand Mélin-Soucramanien& Pierre Pactet ,
Droit Constitutionnel, 33eme édition, sirey, Aout 2014,
P :103-104.
[10] WWW . DROIT
CONSTITUTIONNEL.NET/SEPARATION DES POUVOIRS.HTML 31 oct 2015 /
13h45mn/ cours de droit constitutionnel / O. CAMY.
[11] WWW.Conseil-Etat.Fr/actualités/discours-introduction/la-justice-dans-la-separation-des-pouvoirs/Jean-MarcSauvé/17
juin 2011
[12] JacqueCadart / Institutions Politique& Droit
Constitutionnel , Tome 1,2eme édition, Librairie
Générale de droit et de jurisprudence,Paris, 1979, p :300 .
[13] ارسطو طاليس، السياسة، ترجمة أحمد
لطفي السيد، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2009، ط: 1، ص:23.
[14] ارسطو طاليس، السياسة، م- س، ص: 17
[15] ارسطو طاليس، السياسة، م- س، ص:31.
[16] محمد يحيا، الوجيز في القانون
الدستوري للمملكة المغربية، ط: 5، 2010، مطبعة سبارطيل، طنجة، ص: 188.
[17] نزيه رعد، القانون الدستوري
العام، المبادئ العامة والنظم السياسية، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط: 1،
2011، لبنان، ص: 129.
- انظر كذلك: ارسطو طاليس،
السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2009، ط: 1،
الكتاب الخامس، الابواب:11/12/13، صفحات من 363 الى 377.
[18] حسن مصطفى البحري، م – س، ص: 36الى65.
[19] نظام بركات، عثمان الرواف، محمد
الحلوة، مبادئ علم السياسة، ط:7، 2009، العبيكان، ص:197
[20] مصطفى
بن شريف، م – س، ص:12. انظر كذلك: حسن مصطفى البحري، م – س، ص: 36الى65.
[21] محمد
يحيا، م – س، ص:188
[22] WWW . DROIT CONSTITUTIONNEL.NET/SEPARATION DES
POUVOIRS.HTML 31 oct 2015 / 13h45mn/ cours de droit
constitutionnel / O. CAMY.
- voir
aussi :
André Hauriou,
Jean Giquel et Patrice Galard, Droit Constitutionnel& institutions
Politiques,6eme édition, Montchrestien, Paris, 1975 ,
P.234
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق