مزايا و اثار نظرية الفصل بين السلطات
ارتبطت اثار نظرية الفصل بين السلطات بمدى فهم الساسة
الأوروبيين لمغزى هذه النظرية، و مزاياها على الأنظمة السياسية لاحقا.
المطلب الأول : اثار نظرية فصل السلطات.
مرت نظرية فصل السلطات من مرحلتين أساسيتين، ارتبط تَحقِيبهما بمدى فهم
رجال السياسة لنظرية فصل السلطات، وتأويلهم لها في الواقع العملي.
لقد شكل مبدأ فصل السلطات فتحا علميا كبيرا في الفلسفة السياسية لعصر
الأنوار كما صاغة مونتسكيو بتفاصيله الواضحة، واضعا له هدفا محددا، هو القضاء على
الاستبداد والطغيان، واستخلاص الحقوق والحريات من هذه الأنظمة، وإعادة
الإرادة العامة للشعب، بدل نظرية الحق الإلهي للسلطة،" وأصبح من
المؤكد أن الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات سيؤدي الى احترام القوانين، ثم تطبيقها
بشكل عادل على الجميع، على خلاف مبدأ تركيز السلطة الذي يؤدي الى عدم
استقرار القوانين والاستهتار بها".[1]
وبالتالي شكل المبدأ بارقة أمل للشعوب الرازحة تحت نير
الاستبداد، وهوى الحكام، ما لبثت هذه الشعوب أن تلقفت المبدأ وسارعت الى تطبيقه على
أمل تحقيق الانعتاق السياسي والاجتماعي عبر ميكانيزم فصل السلط" الذي هيمن
على التاريخ السياسي منذ منتصف القرن السابع عشر وتاريخ الدستور الأمريكي منذ سنة
1776 وفرنسا انطلاقا من سنة 1789 وباقي الدول الليبيرالية والديمقراطية،[2] حيث
لقي حماسا كبيرا لدى زعماء الثورة الفرنسية التي تعتبره من المبادئ الدستورية
الأساسية الى جانب إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر 26 غشت 1789 الذي أكد على
أهمية فصل السلطات.
وهو ذات الموقف الذي ثم
الإعلان عنه من طرف الثورة الأمريكية، خاصة في أول دستور لها سنة 1748 الذي
اعتبر، مبدأ الفصل بين السلطات، هو الأساس في تنظيم السلطات في الولايات المتحدة
الأمريكية.
ومنذ ذلك الحين كل الأنظمة السياسية، باستثناء الأنظمة السلطوية سارت
في نفس الاتجاه[...] حيث ساهم الفرنسيون في نشر مبادئ وأفكار هذا المبدأ الذي نشأ
في إنجلترا على أوسع نطاق"[3].
وهكذا أزدهر الفكر السياسي الجديد لمونتسكيو في القرن التاسع عشر على
الخصوص، حيث اعتمد كمعيار لتصنيف الأنظمة السياسية التي تحوز جميع
السلط لفائدة هيمنة السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، مقابل تلك
الأنظمة التي اعتمدت فصل مرن للسلط، كالنظام البرلماني الإنجليزي أو الفرنسي، أو
الفصل الكلي للسلط كالنموذج الرئاسي الأمريكي[4].
وهذا التمايز في الأنظمة السياسية يعود الى التمايز في فهم وتأويل
نظرية فصل السلطات، فهناك من رأى أن الفصل يجب أن يكون كليا وباثا، بحيث تنفصل
السلط والأجهزة بصفة مطلقة، ولا يتدخل أي جهاز في باقي الأجهزة الأخرى (هذا
التفسير شكل الاتجاه التقليدي لنظرية فصل السلطات)، وهناك طريق اخر للتأويل يرى أن
تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات لا يمنع من أن تكون هناك علاقات نسبية بين الأجهزة،
تسمح بالتعاون فيما بينها خدمة للصالح العام.(هذا التفسير شكل الاتجاه الحديث
لنظرية فصل السلطات).
حيث ذهب رجال الثورة في فرنسا و أمريكا الى أن الفصل بين السلطات هو
شرط الحكومة الدستورية الحرة، وأعلنت الثورة الفرنسية ذلك صراحة في اعلان حقوق
الانسان والمواطن في 26 غشت لسنة 1789، إذ نصت المادة 16 منه على أن" أي
مجتمع لا تكون فيه الحقوق مكفولة، أو فصل السلطات محددا، فهو مجتمع بلا
دستور"، وكما جاء في دستور فرنسا في 4 نونبر 1848.
غير أن الثوار في فرنسا انتهوا في تفسير فصل السلطات الى أبعد مما
كان يستهدفه مونتسكيو، فقد ذهبوا الى حد الفصل المطلق والتام، حيث تنتفي كل علاقة
أو تداخل بين الهيئات القائمة على مباشرة هذه السلطات[...]حيث اعتبروا في تفسيرهم
أن الأمة صاحبة السيادة تملك ثلاث سلطات، وكل سلطة تمثل جزءا منفصلا مستقلا من
أجزاء السيادة، وعندما تختار الأمة ممثليها فإنها تفوض كل من هذه السلطات الى هيئة
عامة مستقلة و متخصصة، فتفوض احدى هذه الهيئات الامة في ممارسة السلطة التشريعية،
و الأخرى في ممارسة السلطة التنفيذية، والثالثة في ممارسة السلطة القضائية،
وبالتالي قيام فصل مطلق بين هذه السلطات الثلاث[5].
إلا أن بعض الكتابات الحديثة اعتبرت أن الثوار الفرنسيين لم يريدوا
توظيف مبدأ الفصل بين السلطات كوسيلة لضمان الحريات الفردية، ولكنهم وظفوا المبدأ
لإبقاء الدولة في وضعية ثانوية اتجاه الطبقة البورجوازية التي نجحت في تحييد أفراد
الشعب عن تدبير الشؤون العامة عبر النظام التمثيلي، لا يريدون دولة قوية تجهز على
تطلعاتهم التي يعتبرونها مشروعة[6].
فإذا كانت السيادة لا تتجزأ على مستوى المفهوم النظري، فإن الثوار
الفرنسيين قد فعلوا ذلك إجرائيا بعد أن أقاموا الحواجز وعزلوا السلط عن بعضها
البعض، الأمر الذي يؤدي الى " شلل قوى الدولة، وانهيار وحدتها" من هنا
وجب إعادة التفكير في المفهوم"[7].
فالسلط حسب مونتسكيو يجب أن توزع بشكل متوازن[...] وذلك يتحقق عبر
السماح لكل سلطة بممارسة تأثيرها على السلط الأخرى، مع تنظيم تعاونهما، وهذا هو
اكتشاف مونتسكيو[8]، لذلك كانت النظرية
التي سادت إبان الثورة الفرنسية، والتي نادت بالفصل المطلق بين السلطات، نظرية
قصيرة العمر سرعان ما هجرت واستعيض عنها بمبدأ الفصل النسبي أو المرن بين السلطات
على أساس أن سلطة الدولة وحدة لا تتجزأ تقوم بها عدة وظائف في الدولة لا يمكن
الفصل بينها فصلا مطلقا لسببين:
1- هذه الاختصاصات جميعها إنما تمارس
لأجل تحقيق الصالح العام، وبناء عليه فإنه يجب أن يقوم تعاون و تنسيق بين الهيئات
التي تباشرها، وذلك لأجل تحقيق تلك الغاية
2- أن هذه الاختصاصات يتداخل بعضها مع
البعض الاخر لدرجة لا تسمح بالفصل بينهما فصلا مطلقا، و بناء عليه يجب أن تكون
هناك درجة معينة من المشاركة في ممارستها بين الهيئات العامة المختلفة، شريطة ألا
تؤدي تلك المشاركة الى إلغاء الفواصل القائمة بينها، أو تركيز السلطة في يد واحدة
منها[9] حيث
أن فصل السلط لدى مونتسكيو بعيد عن كونه دعوة للفصل الكلي بين السلط[10] إن
مبدأ الفصل بين السلطات ليس بالمطلق كما أخد بذلك أول دستور في فرنسا الصادر في
سنة 1791، وخلافا لذلك يجب أن تحكم العلاقة بين السلطات المرونة المعقلنة، أي
الفصل النسبي وليس الفصل المطلق لضمان سير مرافق الدولة بشكل متوازن بين السلطات[11].
وبالتالي فالمؤسسات السياسية الإنجليزية هي التي تحقق توازنا بين
ثلاثة أشكال حكومية، لأن القوانين تنتج عن التقاء ثلاث إرادات:" إرادة
الشعب" المتمثلة في مجلس العموم، والارستقراطية المتمثلة في مجلس اللورداتـ،
وإرادة الملك، لِدَى، فالحقوق والمصالح تعتبر مضمونة، نظرا، لأن أي قوة اجتماعية
لا تستطيع فرض سلطتها على الإرادتين الاخرتين، فلِلمَلِك حق إصدار القوانين،
وللمجالس البرلمانية حق مراقبة تنفيذ هذه القوانين ومعاقبة الوزراء الذين لا
يلتزمون باحترامها، أما السلطة القضائية فليس لها أي قيمة من الناحية السياسية،
لأن القضاة يلتزمون بتطبيق القوانين لا بسنها، ومع ذلك يجب أن تبقى مستقلة
لارتباطها بحياة الناس[12] وبالتالي
فالنظام الإنجليزي هو الذي يطبق ويحترم مبدأ الفصل بين السلطات بعدما اكتشفه
بالطريقة الامبريقية[13].
لنخلص الى أن مبدأ الفصل بين السلطات هو نتاج التجربة السياسية
الإنجليزية التي افرزته عبر مسار طويل من الصراع، لأطراف المعادلة السياسية التي
حبكته عبر الممارسة اليومية، للسياسة، وللصراع، ولتوازن القوى، واختلالها، وللفوز
والهزيمة السياسيين، وهم وحدهم الانجليز من يعرف أسرار هذا المبدأ و شروط نجاحه.
وأول شروط نجاح مبدأ الفصل بين السلطات، هو القبول بالآخر
السياسي، بمعنى قبول مراقبته لك، ومشاركته لك في سلطتك، استثناء، وفق
حالات يحددها القانون.
الامر الذي لم يتوفر في التجربة الفرنسية على عهد الجمهورية الأولى
والثانية، حيث النفوس الثورية هائجة ترى في الملوك أنهم فاقدي الشرعية والمشروعية
بسبب تاريخهم الاستبدادي، المليء بالتجاوزات القانونية والسياسية، فكيف لهم
والحالة هذه، بحق التدخل بأي شكل من الأشكال في شؤون السلطة التشريعية لممثلي
الأمة، لدى نراهم حاولوا تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات بشكل لا متوازن لفائدة
ممثلي الإرادة العامة، في عملية انتقام سياسي من السلطة التنفيذية التي وفرت جميع
شروط نقمة الشعب عليها، الأمر الذي حال دون نجاحهم في بلورة هذا المبدأ على ارض
الواقع، الناجم عن سوء فهمهم لمستلزمات نجاح هذا المشروع السياسي.
وبالتالي فنجاح مبدأ الفصل بين السلطات يقتضي اجراء مصالحة وطنية في
الأقطار التي تريد اعتماده بشكل إيجابي بعد انجلاء الأزمة السياسية، لأن القبول
بالأخر السياسي يقتضي نفوس هادئة، تحتكم الى العقل، و تتغيأ المصلحة العليا للوطن،
بمعنى أن مبدأ الفصل بين السلطات، يحتاج الى سياسيين لا إلى ثوار. إذ كلما تباعد
زمن الثورة إلا وازداد منسوب التوازن في اعتماد المبدأ داخل النظام السياسي.
المطلب الثاني : مزايا مبدأ الفصل بين السلطات
لقد شكل مبدأ الفصل بين السلطات إضافة
نوعية للفلسفة السياسية لعصر الانوار، حيث كانت أوروبا تحارب
الطغيان السياسي المرتبط بالمفهوم الديني للحكم، حيث ثم تكريس السلطة الزمنية
للملوك عبر تحكمهم في الأفكار، وحصر مهمة التفكير للهيئات الدينية.
وبالتالي كانت الأفكار السياسية سلاحا قويا لمواجهة الاستبداد
بالحكم، وتغليب هوى الحكام على مصالح الشعوب.
واستمر الواقع السياسي المتسم بسيطرة السلطة التنفيذية الى حين مجيئ
نظرية فصل السلطات، التي أعادت التوازن الى العلاقة بين سلطات الدولة، حيث برز دور
البرلمان المدافع عن الإرادة العامة، وأصبح مشاركا في صنع القرار السياسي.
حيث " أصبح مبدأ الفصل بين السلطات، مبدأ أساسيا في
الأنظمة السياسية المعاصرة والديمقراطية مع النظام التمثيلي، ووسيلة لمحاربة الملكية
المطلقة، وضمانة للحريات[14].
و قد عدد مؤيدي نظرية فصل السلطات مزايا من بينها:
1- صيانة الحرية ومنع الاستبداد، لأن
تركيز السلطة في يد هيئة واحدة يؤدي الى إساءة استعمالها، والقضاء على حريات
الافراد،/ إذ أن الحريات لا توجد إلا في الحكومات المعتدلة، و حتى في الدول
المعتدلة لا توجد الحرية دائما فهي تتحقق فقط حينما تتقيد السلطة ويمنع إساءة
استعمالها.
2- يحقق احترام القوانين و يكفل
تطبيقها تطبيقا سليما وعادلا، بخلاف مبدأ تركيز السلطة الذي يؤدي الى عدم استقرار
القوانين والاستهتار بها، وينتج عن هذا الفصل تمتع القوانين التي تنتج عن السلطة
التشريعية بصفي العمومية والتجريد مما يوفر لها الاحترام من جميع الهيئات، ويكفل
تطبيقها تطبيقا عادلا على جميع الافراد، أما لو اجتمعت سلطة التشريع وسلطة التنفيذ
في سلطة واحدة لأذى ذلك الى أن يكون منفذ القانون هو نفسه الذي قام بسنه، أي أن
صفتي المشرع والمنفذ ستجتمعان في يد واحدة، ويترتب عن ذلك فقدان القانون لعموميته
وحياديته، و خضوعه لأهواء وميول تلك الهيئة[...]، وتتحقق نفس النتيجة عند اجتماع
السلطتين التشريعية والقضائية في يد هيئة واحدة فتضيع صفة العمومية التي يتصف بها
القانون ويتحول الى أداة لتنفيذ الأغراض والمارب من ناحية، ومن ناحية
أخرى ستنتفي رقابة القاضي على عدالته ومشروعية تنفيذه، لأنه هو القاضي وهو المنفذ
في نفس الوقت.
3- يعمل المبدأ على تقسيم الوظائف
المختلفة للدولة على هيئات مستقلة مما يؤدي الى اتقان هذه الهيئات و إجادتها
لعملها [...] ليس فقط في علم الإدارة، بل أيضا في المجال السياسي، فقد لاحظ
مونتسكيو أن وظائف الدولة- أي دولة – هي ثلاث، وظائف التشريعية، التي
تتمثل في صنع القانون، والوظيفة التنفيذية التي تتضمن تنفيذ القانون، وإقامة
الأمن، والعلاقات الدبلوماسية، وأخيرا الوظيفة القضائية المتمثلة في تطبيق
القوانين على المنازعات بين الافراد، ومن ثم يكون من الضروري توزيع هذه الوظائف
الثلاث على هيئات منفصلة تراقب بعضها بعضا لحسن أداء كل هيئة لوظيفتها نتيجة
تخصصها[15]
محمد بالخضار، باحث في
القانون العام
[1] نزيه رعد، القانون
الدستوري العام، المبادئ العامة والنظم السياسية، المؤسسة الحديثة
للكتاب، ط: 1، 2011، لبنان ، ص: 130
[2] Jacques Cadart ,
Institutions Politique& Droit Constitutionnel , Tome 1,2eme édition,
Librairie Générale de droit et de jurisprudence, Paris, 1979, p .298.
[3] Jacques Cadart ,
op.cit , P:298.
[4] Ferdinand Mélin-Soucramanien&
Pierre Pactet . Droit Constitutionnel, 33eme édition,
sirey, Aout 2014,. p :104.
[5] حسن مصطفى البحري، الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كظمان لنفاذ القاعدة الدستورية" دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، القاهرة، 2005-2006،، ص:36-65.
[6] Bertrand
Pauvert , Droit conctitutionnel, Théorie Génerale , Levallois-Perret,
Studyrama, 2004,P : 156 .
[7] Bertrand
Pauvert , op.cit. p :157
[8] Jacques Cadart ,
op.cit , P:301 .
[9] حسن مصطفى البحري، م – س،
ص:36-65.
[10] German Alfonso Lopez
Daza « une nouvelle approche au principe de la séparation des pouvoirs
publics dans la perspective de l’etat contemporain » www.juridicos.unam.MX/wccl/ponencias/14/261.pdf le 31oct
2015/10h53mn.
[11] مصطفى بن شريف، التشريع
ونظم الرقابة على دستورية القوانين، سلسلة الوعي القانوني، رقم: 1، سبتمبر 2015،
مطبعة بني يزناسن، سلا، منشورات الزمن، ص: 13.
[12] رقية مصدق، القانون
الدستوري والمؤسسات السياسية،ط:2، ، دار توبقال للنشر،1990، ص: 138.
[13] Jacques
Cadart ,op.cit , P. 301.
[14] Omar Bendourou. Droit
constitutionnel et Institutions Politiques,3eme édition,2011,.p:159
[15] الحاج قاسم محمد، الحاج قاسم محمد،
القانون الدستوري والمؤسسات السياسية – المفاهيم الأساسية والنظم السياسية، ط :5،
2011، ص: 112
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق